الإسلام دين كامل
للإستاذ الدكتور الإمام
محمد بن عبدالله المسعري
للإستاذ الدكتور الإمام
محمد بن عبدالله المسعري
إن جميع أفعال العباد الاختيارية هي محل الحكم الشرعي، لا يخرج شيء منها عن ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (النحل؛ 16:89)، وقوله، تباركت أسماؤه: {... فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، (النساء؛ 4:59)، وقوله، جل وعز: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، (الشورى؛ 42:10)، ومعلوم بضرورة الحس والعقل أن الناس قد اختلفوا في كل شيء، وتنازعوا في كل شيء، حاشا ضروريات وأوليات الحس والعقل عند العقلاء، وحتى هذه خالف فيها السوفسطائيون،
....، والمجانين! فوجب، يقيناً، رد كل شيء وقع فيه خلاف وتنازع إلى حكم الله. والرد {إلى الله والرسول} لا بد، ضرورة، أن يكون فيه رفع الخلاف، كل خلاف، وفض النزاع، كل نزاع، وإلا كان أمر الله كذباً وتضليلاً، بإحالته عند النزاع إلى من ليس لديه فض النزاع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! لذلك لا بد من القطع والجزم بأن الكتاب والسنة فيهما فصل كل خلاف، وفض كل نزاع، لا يشك في ذلك إلا جاهل مركب دابته أفقه منه وأعقل، أو كافر خبيث!
ثم وجدناه، سبحانه وتعالى، أحال، في الوحي، أي في الكتاب والسنة، ما كان من شؤون «الدنيا»، أي خواص العالم المحسوس، وطبائعه، من جنس تأبير النخل: أي علوم الفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض، وحرف الطب والزراعة والصناعة والهندسة، ونحوها، إلى الناس، أي إلى الحس والتجربة، والنظر والعقل، إحالة عامة، على وجه الإجمال: مراقبة وتجربة ودرساً وتنظيراً، وانتفاعاً وتطبيقاً. واستأثر بما سوى ذلك، وهو ضرورة من «الدين»، أي الشريعة العامة، والطراز المعين من العيش، لنفسه، وبالأخص ما كان: من الخبر عن ذاته العظيمة المقدسة، وملائكته الأطهار، واليوم الآخر، ونحوه، ومن الحكم على أفعال العباد، بالحل والحرمة والوجوب، وعلى أخلاقهم بالحسن أو القبح، ونحوه.
وقد استغرقت الشريعة المطهرة الخاتمة كل أفعال العباد بأحكامها على أكمل وجه، لما ذكرناه، ولقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً}، (المائدة؛ 5:3)، مؤكداً، عقيبها مباشرة، في تناسب بديع، على أحكام الاضطرار المتعلقة بالمحرمات من الطعام، التي سبق نزولها في أوائل الوحي المكي: {فمن اضطر في مخمصة، غير متجانف لإثم، فإن الله غفور رحيم}، (المائدة؛ 5:3). فالدين قد كمُل، وهو الإسلام لا دين غيره، وليس غيره إلا الجاهلية والكفر، والنعمة قد تمت، ليس وراءها إلا النقص، ثم المصائب والنقم، في معصية الله، ومخالفة أمره، وعدم التقيد بشرعه، ثم بعد ذلك في الآخرة: النار الأبدية، واللعنة السرمدية!
والالتزام بالأحكام الشرعية هو القصد من خلق الإنسان، وهو معنى الوجود الإنساني، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، (الذاريات؛ 51:56)، والعبادة هي التسليم، والخضوع، والطاعة، المبنية على منتهى الحب والتعظيم، أي الالتزام بكل أمر ونهي، كما سنفصله بما لا مزيد عليه، إن شاء الله تعالى، في هذا الكتاب!
وقد أوجبت الشريعة الكاملة أعمالاً، هي «الفرائض» أو «الواجبات»، لا تسقط إلا «بعدم القدرة»، أو برخصة شرعية منصوص عليها لتلك الفريضة بعينها، كالصيام في السفر، حتى ولو كان سفراً غير شاق، مع بقاء وجوبه على من ابتلي بعمل بدني شاق، مشقته قد تفوق مشقة السفر على ظهر الراحلة بكثير، ما دام قادراً!
وحرمت أعمالاً، هي «المحرمات»، لا يرخص لأحد فيها إلا برخصة منصوص عليها شرعاً، كالرخصة في الكذب في مواطن معدودة، جاء النص بها. وكذلك في أحوال الضرورة والإكراه الملجئ، أي الأحوال المؤدية إلى الموت، أو تلف الأعضاء، أو الأذى بالتعذيب والضرب الشديد يقيناً.
وحتى أحوال الضرورة هذه لا تبيح للإنسان قتل غيره، أو اتلاف أعضائه، فليست نفس المكره المضطر أعلى مرتبة أو أولى بالصيانة من نفس الغير. والضرورة، والإكراه الملجيء بالتهديد بالقتل المؤكد، لا يبيح للمسلم أن ينصر الكفار الحربيين على قتال المسلمين وقتلهم لأن جمهور العلماء، بل لعله إجماعهم، على أن المكره على القتل ليس له أن يفعل ذلك، لأن نفسه ليست أولى من نفوس الآخرين بالصيانة والحفظ، هذا بين واضح، وإليك كلام جيد للإمام شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، رضي الله عنه:
حيث قال الإمام في «الفتاوى الكبرى»، (ج: 4 ص: 351): [....، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس. فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكرِه والمكرَه جميعا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر الجواب يجب القود على المكرِه فقط كقول أبي حنيفة ومحمد وقيل القود على المكرَه المباشر كما روي ذلك عن زفر وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه]، أنتهى كلام ابن تيمية، وقد كرر نحوا من هذا الكلام في موضع آخر من «مجموع الفتاوى»، (ج: 28 ص: 540).
وله في «كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه»، (ج: 28 ص: 537) كلام جيد من زاوية أخرى: [...، بل قد أمر النبى المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما فى صحيح مسلم عن أبى بكرة قال قال رسول الله أنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشى و الماشى فيها خير من الساعى ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بابله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج أن إستطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربنى رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلنى قال يبوء باثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار]
هذان نصان في غاية الجودة من كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله سره، ورفع درجته، فتأمله حق تأمله، وراجعه مراراً.
وهناك أفعال، وهي، بحمد الله وتيسيره، أكثر أفعال العباد: ترك للمكلف الخيار فيها: إن شاء فعل، وإن شاء ترك. وربما كان الفعل في بعضها أولى، وهي «المستحبات». وقد يكون الترك في بعضها أولى، وهي «المكروهات». وربما تعادل الطرفان، وهي «المباحات». والمكلف يفعل المباحات أو يتركها، باختياره، على ما يظهر له في كل حالة ووضع من منفعة أو مصلحة، فيقوم بصفقة «مباحة»، ويترك أخرى «مباحة» لما ظهر له من كثرة ربح الأولى، وقلة الثانية، ويتجنب ثالثة «مباحة» خشية الخسارة!
فالنظر في المصالح والمنافع، وبضدها المفاسد والمضار، إنما يرد إذا كان أصل الفعل مباحاً، لا غير. فلا بد من دراسة لمشروعية الفعل، أي فعل، والوصول إلى حكم الله فيه أولا. فإذا ثبت أنه مما خُيِّر المكلف فيه، ورد حينئذ، وحينئذ فقط، النظر في المصالح والمنافع، وما يقابلها من مفاسد ومضار.
وعلى هذا فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يترك واجباً، بغير رخصة شرعية، أو لعدم قدرة، أو يرتكب حراماً، من غير إكراه ملجئ، بدعوى درء المفسدة، أو جلب المصلحة، مهما عظمت. فليس في ما أوجب الله مفسدة، مطلقاً، ولا في ما حرمه مصلحة، مطلقاً!
وكل ما يقال بخلاف ذلك ما هو إلا وسوسة من الشيطان، وطعن في الشريعة الكاملة، وترك لما خلقنا من أجله، وهو: «العبودية»، أي الطاعة والالتزام بالأحكام الشرعية، وإقبال على ما كفيناه، وهو: الأرزاق، والمعايش، و«المصالح»، بل ولا حتى النصر أو التمكين.
فنحن لم نكلف بالنصر والتمكين لأنهما من أفعال المولى، جل وعلا، وإنما كلفنا بالجهاد، وبالحكم بما أنزل الله حال التمكين. وكذلك كلفنا الله بالدعوة إليه على بصيرة، والعمل على نشر الدعوة، والعمل على إظهار الدين، ولم يكلفنا قط بـ«انتشار الدين» أو بـ«ظهور الدين»، فهذه من أفعال الله تبارك وتعالى، وتدبيره للأمر، وتصرفه الإلاهي في الكون، وتلك من أفعال العباد الاختيارية التي هي موضع التكليف!
والنصوص الشرعية، أي نصوص الوحي، أي الكتاب والسنة، كافية بحمد الله، لجميع الوقائع، من يوم وفاة النبي، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه، إلى آخر الأبد. لا يقال أن الوقائع والأحداث والمستجدات غير متناهية، والنصوص متناهية، لأن الوقائع غير المتناهية هي الوقائع العينية، والأحداث المشخصة، أما أصناف الوقائع، وأجناس الأحداث فهي نهائية محدودة تشملها النصوص على الكفاية، والتمام، والكمال. فصلاة زيد، غير صلاة عمرو، وهكذا إلى ما لا نهاية، ولكن جنس الصلاة واحد، أو أجناس قليلة محصورة، قد استوعبتها النصوص، وهكذا!
فقد أخرج ابن ماجه، بإسناد غاية في الصحة، عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه، قال: قال له بعض المشركين، وهم يستهزئون به: (إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟!)، قال: (أجل: أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم)، وفي لفظ لأحمد بإسناد غاية في الصحة: قال رجل: (إني لأرى صاحبكم يعلمكم كيف تصنعون حتى إنه ليعلمكم إذا أتى أحدكم الغائط؟!)، قال: قلت: (نعم، أجل، ولو سخرت: إنه ليعلمنا كيف يأتي أحدنا الغائط، وإنه ينهانا أن يستقبل أحدنا القبلة، وأن يستدبرها، وأن يستنجي أحدنا بيمينه، وأن يتمسح أحدنا برجيع ولا عظم، وأن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار). وقد أخرج مثله، من غير ذكر الاستهزاء، بأسانيد صحاح، الأئمة: مسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد وغيرهم.
تأمل هذا المشرك العنيد، بل الحمار البلبد، وتعجب من رباطة جأش سلمان، وحسن جوابه، وعظيم أدبه، وحسن تعامله وتجمله، وما تضمنه الجواب من أحكام وآداب.
فإذا كان كلام سلمان حقاً، ونحن نشهد بالله الذي لا إله إلا هو أنه حق، فكيف يسوغ لمن يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزعم أن الشريعة فيها «مناطق فراغ»، أو «ثغرات»، أو أن هناك ما لم يأت به نص؟! ثم يذهب لملئه بالهوى والابتداع الذي يسمونه بالأسماء الجميلة، أي بغير اسمه القبيح، لتضليل الناس. ومن هذه الأسماء الجميلة المضللة: (فهم السلف الصالح)، (جلب المصالح، ودرء المفاسد)، (تسكين الدهماء، وإسكات الرعاع)، (سيرة العقلاء)، أو (خشية الفتنة)، التي هي «الحجة» المحببة إلى قلوب الخونة من فقهاء السلاطين، أخزاهم الله وأبعدهم، ولعنهم وأبادهم: { ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. }
وأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، قال: [تركنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً]، قال: فقال، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله: «ما بقي شيء يقرب من الجنة، ويباعد من النار، إلا وقد بين لكم». هذا حديث صحيح، قد برهنا على صحته في الملحق، مؤيد لما ذكرنا من كمال الدين، وتمام النعمة.
وفي «الجامع الصحيح المختصر» للبخاري: [حدثنا موسى بن مسعود حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله إن كنت لأرى الشيء قد نسيت فأعرفه كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه]
فلا صحة إذن لما تورط فيه جهلة المنتسبين إلى الدعوة الوهابية، والمتسمين زوراً وبهتنانآ بـ«السلفية»، من أن الدين كان ناقصاً حتى استكمل فهمه الصحيح السلف الصالح من القرون الثلاثة الفاضلة، أو حتى من الصحابة، أو حتى من الخلفاء الراشدين، وهم يقولون ذلك تلميحاً، بضحالة وسطحية، وتفاهة فكر، كما هي عادة القوم، للأسف الشديد، من معاداة الفكر، ونبذ التعقُّل والعقل، والإيغال في تفاهة النظر والرأي.
نعم: هم يقولون هذا من غير تحرير للمسألة، ولا دراسة متعمقة لها، لا تصريحاً بني على فكر عميق، لأن التصريح بذلك بعد تحرير المسألة كفر.
وهم بقولهم: القرآن والسنة بفهم السلف الصالح يحكمون لا محالة بنقص الدين، وعدم كمال البيان، ولا بتمام النعمة عند وفاة النبي، صلوات ربي وسلامه وتبركاته عليه وعلى آله، فكأن النبي لم يفهم، أو فهم ولم يبين، معاذ الله!
كما أنهم يطعنون في ختم النبوة، وعالمية الرسالة من حيث لا يشعرون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فما أعظم تلبيس إبليس؟!
بل القرآن والسنة ميسرة للذكر، مفهومة لكل من أراد تدبرها، ونفر للتفقه فيها كما أمر الله في سورة التوبة، لا فرق بين «سلف صالح»، و«خلف طالح»!
أما الكسالى والسطحيين الذين أبوا أن ينفروا للتفقه في الكتاب والسنة، وأخلدوا إلى راحة التقليد و«اتباع السلف الصالح»، أما هؤلاء فلن يفقهوا ما أنزل الله على وجهه، وسيبقون متخبطين بين قال فلان، ورد عليه فلتان، وإن قلتم قلنا، ولنا أحمد بن حنبل، ولكم مالك بن أنس: وهكذا في دوامة لا تنتهي من الأقوال المتباينة، والمزاعم المتناقضة. وسترى في هذه الرسالة القصيرة الكثير من ذلك، ليس فقط من قصور الفهم وإسائته، بل من الأغلاط الشنيعة الفاحشة، والزلات المدمرة المهلكة!
وأكثر أدعياء «السلفية» هؤلاء جهلة عوام، يتبعون مشايخ ليسوا بأحسن منهم كثيراً في العلم. وهم في الجملة لا يعرفون أقوا «السلف» واختلافهم، ويندر أن تجد منهم من تصفح «مصنف ابن أبي شيبة»، أو «سنن سعيد بن منصور»، مجرد تصفح، ناهيك بالدراسة المتأنية، دع عنك «مصنف عبد الرزاق» أو حتى «الأوسط» لابن المنذر، ولكنهم يجيدون المزاعم الكاذبة، والدعاوى العريضة، كشأن كل غبي جاهل، وعادة كل سطحي تافه.
ونحن إنما اطلنا الكلام على «أدعياء السلفية» هؤلاء، واستطلنا في عرضهم، لأنهم أكثر خلق الله تزكية للنفس، فهم «أهل العقيدة الصافية الصحيحة»، وغيرهم مبتدع ضال، أو مرتد كافر. فهم، بزعمهم العريض، وادعائهم المجرد: «الفرقة الناجية»، و«الطائفة المصورة»، وغيرهم هالك أو معذب. فما أشبههم بالخوارج الغالية الهالكة، وأحقهم بأوفر نصيب من قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من قال هلك الناس، فهو أهلكهم».
كما أنه لا صحة، كذلك، لما تورط فيه بعض الإسلاميين المعاصرين، وكذلك قلة من القدامى، من الزعم بوجود «فراغ تشريعي» يملؤه الناس بـ«العقل»، أو «الاستحسان»، أو «المصالح المرسلة»، أو «قياس الشبه»، أو «سيرة العقلاء»، أو بمراعاة «روح التشريع ومقاصده»! ولا صحة لقول من قال أن الوحي فصَّل في العقائد، والعبادات، وأجمل في المعاملات!
ويكفي لإبطال هذا الوهم الخطير، الذي يؤول إلى الكفر، حديث سلمان السالف الذكر في ما يتعلق بالطهارة وآداب الخلاء، أما فيما يتعلق بالمعاملات فيكفي إحصاء البيوع المنصوص على فسادها وحرمتها، وهي نيف وأربعون نوعاً، بعضها نادر جداً، لا يكاد يعرف! فأين الإجمال يا أهل الإنصاف؟! ثم حتى لو لم يذكر إلا صنفاً واحداً من البيوع فحرمه، كان ذلك بذاته دليلاً على أن البيوع سواه مباحة حلال، كما أصلناه في الفصول السابقة، لا سيما مع قوله تعالى: }وأحل الله البيع، وحرم الربا{، فأين الفراغ التشريعي إذاً؟! وهل كل هذه المزاعم الساقطة إلا أساطير الرخ والعنقاء؟!
ولكن الحق هو ما نص عليه الإمام الحجة محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، حين قال في «الرسالة»: [فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها!]. نعم، صدقت يا أبا عبد الله! هذه حقيقة يقينية ثابتة: جهل ذلك من جهله، أو علمه من علمه.
وقد فصل ذلك وأصله الإمام الحجة أبو محمد علي بن حزم، رفع الله درجته، في كلامه الذي نقلناه آنفاً قبل عدة صفحات، حيث دحض أقوال المخالفين دحضاً، فطحنها، ومزقها تمزيقاً!
وهذه الأقوال الخبيثة الملعونة إنما تصدر من:
(1) أقوام كفرة من أهل النفاق الاعتقادي، يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، ويريدون مزج الشريعة بالكفر، تدريجياً وبطريقة حذرة، حتى إذا فسدت أذواق الناس، وتبلدت أحاسيسهم، أماطوا اللثام، ثم نزعوا الثياب، ومشوا عرايا مظهرين العورة المغلظة، أي أظهروا الكفر البواح. وقد كثر هذا في عصرنا هذا (أواخر القرن الهجري الرابع عشر، وأوائل الخامس عشر الحالي)، وهم في أغلبيتهم من الحكام والمتنفذين.
(2) أو من قوم فسقة كسالى: أعيتهم السنن أن يحفظوها، أو أن يراجعوها في مصادرها، وقصرت هممهم عن تمييز صحيحها من سقيمها، وتكاسلوا عن بذل الجهد، واستفراغ الوسع في تدبر معانيها واستنباط الحكمة والهدى منها،
(3) أو من مقلدة جامدين، جهلة مبتدعين، ظلاميين متخلفين، أحالوا عقولهم، التي كرمهم الله بها، إلى التقاعد، ونصبوا لأنفسهم أحباراً ورهباناً، جعلوهم في مرتبة القداسة، يتبعونهم اتباع الدواب العجماء لقادتها!
نعم: لا ننكر أنه قد زلَّت القدم ببعض العلماء المخلصين الأكابر: فقاس بعضهم الشريعة الإلاهية الكاملة على الشرائع الوضعية الناقصة، المملوءة، ضرورة، بالثغرات، والتي تحتاج إلى ترقيع ثقوبها، وملء ثغراتها بـ«روح التشريع»، و«الاستحسان»، و«سيرة العقلاء»، و«المصالح المرسلة»، و«سد الذرائع»، وغيره من الفضائح والمخازي، والدجل والهراء!
والعالم المخلص الورع، أياً كانت مرتبته، لا يجوز أن يتابع على زلته، ولكن يستعاذ بالله منها، ويتضرع إلى الله أن يغفرها له، كما نفعل الآن سائلين الله لجميع علماء الأمة المخلصين الأثبات الذين أخطئوا في هذا الباب، مجتهدين طالبين للحق بعد استفراغ الجهد، وبذل الوسع، من الله المسامحة عن الخطأ والعفو والغفران، وعلى بذلهم الوسع جزيل الثواب والرحمة والرضوان، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم؛
أما فقهاء السلاطين الخونة، والحكام الجبابرة الظلمة الفسقة، فلا رحمهم الله، ولا غفر لهم، بل عليهم من الله لعنة وغضب وسخط، وتعساً لهم، وأضل أعمالهم.